الأربعاء، 9 سبتمبر 2009

الأربعاء، 9 سبتمبر 2009

تكامل العقل والنقل في الإسلام

من الشبهات التي يثيرها خصوم الإسلام في الداخل والخارج التناقض المزعوم بين “العقل” و”النقل” والادعاء بأن الاسلام لا يحترم العقل وأن الثقافة الإسلامية ثقافة نقلية لا عقلية وأن جميع علماء المسلمين من دون استثناء غير مؤهلين لأنهم اعتمدوا على النقل وليس التفكير، ويطالب هؤلاء بإخضاع كل أمور الدين للعقل وإلغاء كل الأساسيات الموجودة التي تعتبرها الأمة من المسلمات، والبحث من جديد عن الحقيقة معتمدين على العقل فقط.




ويفند المفكر الإسلامي الدكتور محمد عمارة هذه الشبهات ويرد بأسلوب علمي مقنع على هذه الاشكاليات التي يرددها المستشرقون من الغرب وخدعوا بها كثيرا من المثقفين من عالمنا العربي والإسلامي. ويقول: للأسف هذا الكلام الساذج يردده نفر غير قليل من المثقفين في بلادنا العربية والاسلامية مع أنهم لو قرأوا القرآن الكريم مجرد قراءة عابرة، ولو اطلعوا على كتاب واحد من كتب الأحاديث النبوية الشريفة لأدركوا ان الاسلام بلغ درجة عالية من التفوق والتميز في احترام عقل الانسان، فمقام العقل في الاسلام مكان عال وفريد ولا نظير له في الشرائع السابقة على الشريعة الاسلامية الخاتمة، إذ إن العقل في الاسلام هو مناط التكليف بكل فرائض وأحكام الاسلام، أي أنه شرط التدين بدين الاسلام.



معجزة عقلية



ويوضح الدكتور عمارة أن النقل الاسلامي والمتمثل في المعجزة القرآنية الخالدة هو في حقيقة الأمر معجزة عقلية ارتضت العقل حكماً في فهمها، وفي التصديق بها، وفي التمييز بين المحكم والمتشابه من آياتها، وأيضاً في تفسير هذه الآيات، فليس للقرآن الكريم كهنوت يحتكر تفسيره، وإنما هو ثمرة لنظر عقول العلماء المفسرين، وعلى حين كانت معجزات الرسالات السابقة معجزات مادية تدهش العقول فتشلها عن التفكير والتعقل جاءت معجزة الاسلام الأولى وهي القرآن الكريم معجزة عقلية، تستنفر العقل كي يتعقل ويتفكر ويتدبر وتحتكم اليه باعتباره القاضي في تفسير آياتها، فكان النقل الاسلامي سبيلا لتنمية العقلانية الاسلامية، وكان هذا التطور من طبيعة المعجزة متناسباً ومتسقاً مع مرحلة النضج التي بلغتها الانسانية.



فالعقل في الاسلام كما يؤكد مفكرنا الكبير هو سبيل الايمان بوجود الله ووحدانيته وصفاته، لأن الإيمان بالله سابق على التصديق بالرسول وبالكتاب الذي جاء به الرسول، لأنه شرط لهما، ومقدم عليهما، فالتصديق بالكتاب النقل متوقف على صدق الرسول الذي أتى به، والتصديق بالرسول متوقف على وجود الإله الذي أرسل هذا الرسول وأوحى اليه، والعقل هو سبيل الايمان بوجود الله سبحانه وتعالى، وذلك عن طريق تأمل وتدبر بديع نظام وانتظام المصنوعات الشاهدة على وجود الصانع المبدع لنظام وانتظام هذه المصنوعات، فالعقل في الاسلام هو أداة الايمان بجوهر الدين (الالوهية) وذلك على حين كان العقل غريباً ومستبعداً من سبل الايمان في حقب الرسالات السابقة على الاسلام، حقب المعجزات المدهشة للعقول، عندما كانت الانسانية في مراحل الطفولة “خرافا ضالة” تؤمن بما يلقى الى قلبها من دون إعمال عقل، لأن الايمان كما قال القديس والفيلسوف النصراني “انسيلم” لا يحتاج الى إعمال عقل.



ثنائية لا يعرفها الإسلام



ويشير الدكتور عمارة الى خرافة المقابلة بين العقل والنقل في ثقافتنا الاسلامية وجعل العقل مضاداً أو مواجهاً للنقل. ويقول: إن المقابلة بين “العقل” و”النقل” هي في حقيقة الأمر أثر من آثار الثنائيات المتناقضة التي تميزت بها المسيرة الفكرية للحضارة الغربية، حيث جاءت عقلانيتها في عصر النهضة والتنوير الوضعي العلماني ثورة على النقل اللاعقلاني ونقضاً له.



أما في الاسلام والمسيرة الفكرية لحضارته، وأمته وخاصة في عصر الازدهار والابداع فإن النقل لم يكن ابدا مقابلا للعقل، لأن المقابل للعقل هو الجنون وليس النقل، ولأن النقل الاسلامي والمتمثل أساساً في القرآن الكريم هو مصدر العقلانية المؤمنة والباعث عليها، والداعي لاستخدام العقل والتفكر والتدبر في آيات الله المنظورة والمسطورة جميعاً.



معان قرآنية



وآيات القرآن التي تحض على العقل والتعقل تبلغ 49 آية، أما الآيات التي تتحدث عن “اللُّب” بمعنى عقل وجوهر الانسان فهي 16 آية. كما يتحدث القرآن عن “النهى” بمعنى العقل في آيتين، وعن الفكر والتفكر في 18 آية، ويذكر الفقه والتفقه بمعنى العقل والتعقل في 20 موضعاً في القرآن ويأتي العقل بمعنى التدبر في اربع آيات، وبمعنى الاعتبار في سبع آيات، أما الآيات التي تحض على الحكمة فهي 19 آية. ويذكر القلب كأداة للفقه والعقل في 132 موضعا، ناهيك عن آيات العلم والتعلم والعلماء التي تبلغ في القرآن اكثر من 800 آية.. وبهذا يتضح لكل مَنْ له عقل ان النقل الاسلامي وهو الشرع الالهي هو الداعي للتعقل والتدبر والتفقه والتعلم، والعقل الانساني هو أداة فقه الشرع، وشرط ومناط التدين بهذا الشرع الالهي ولذلك لا أثر للشرع من دون العقل، كما انه لا غنى للعقل عن الشرع وخاصة فيما لا يستقل العقل بإدراكه من أمور الغيب وأحكام الدين، ذلك ان العقل مهما بلغ من العظمة والتألق في الحكمة والابداع هو ملكة من ملكات الانسان، وكل ملكات الانسان بالخبرة التاريخية والمعاصرة هي نسبة الادراك والقدرات تجهل اليوم ما تعلمه غدا، وما يقصر عنه عقل الواحد يبلغه عقل الآخر..



الهدايات الأربع



وإذا كانت ميادين عالم الشهادة الكون بكل ما فيه ومَنْ فيه مفتوحة على مصاريعها أمام العقل وأمام التجربة بالنسبة للإنسان، فإن هناك ميادين، وخاصة في معارف عالم الغيب، سبيل معرفتها النقل أي الوحي فالهدايات التي يهتدي بها الانسان هي “العقل” و”النقل” و”التجربة” و”الوجدان” وليست العقل وحده دون سواه، وبتنوع الهدايات وسبل المعرفة الانسانية مع تنوع مصادر المعرفة الانسانية الوحي وآيات الله المسطورة مع الكون وآيات الله المنظورة تتكامل وتتوازن المعرفة الانسانية.



وينتهي الدكتور عمارة الى ان الاسلام لا يعرف على الاطلاق هذه الثنائية المتناقضة بين العقل والنقل، ويقول: صريح المعقول لا يمكن ان يتعارض مع صحيح المنقول، وعلى الذين يرددون مثل هذه المغالطات والشبهات ان يستعيدوا عقولهم التي سلموها لخصوم الاسلام في الغرب وأصبحوا أبواقاً لهم في بلادنا الاسلامية.



د. محمد عمارة

منقول من جريدة الخليج

الإمارات

4-8-2006

ليست هناك تعليقات:

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

جميع الحقوق محفوظة لــ العقل والعلم فى حوار الالحاد 2018 ©