الجمعة، 11 سبتمبر 2009

الجمعة، 11 سبتمبر 2009

العقـــــل في ميـــزان الإســـلام

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فإن الإسلام دين جاء يخاطب العقول ويدعو للفكر والتأمل، فالدين الذي لا عقل معه هو الوثنية والتجسيد والتعديد، بل إن إعمال العقل هو طريق للرقي الإيماني قال سبحانه (إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب) آل عمران آية: 190

كما أن الإســلام يخاطب العقول، ويعتمد عليها في فهم الدين، وعمارة الدنيا، وهو يدعو إلى العلم والتفوق فيه، والأخذ بأحدث أساليبه، والنزول على حكمه في كل المجالات، يعتبر التفكير عبادة، ولا يرى أي تعارض بين العقل الصريح والنقل الصحيح، فالعقل ـ كما قرر علماؤنا ـ هو أساس النقل، إذ به ثبت وجود الله تعالى، وثبتت النبوة .

يقول فضيلة الشيخ محمـد الغـــزالي –رحمه الله-:
يحسب كثيرون أن صلة الدين بالقلب أسبق من صلته بالعقل، أو أنه بحسب الإنسان أن يكون صافيَ الروح نبيلَ الخلُق صادق المشاعر ليَتِم دينه ويكتمل يقينه، مهما كان عقله بعد ذلك.
وذلك خطأ! فإن الإسلام يريد أولًا عقلًا سليمًا وفكرًا مستقيمًا، فما قيمة امرئ مُشَوَّش الذهن سقيم التفكير؟

إن صحة النظر إلى الأمور ودقة الحكم على الأشياء تجيء أولًا، ثم تجيء الطيبة والنية الحسنة بعد ذلك.

وعندما بدأت الدعوة إلى الإسلام أهاب القرآن بالناس أن ينفُضوا عنهم ما وَرِثوا من خرافة، وأن يعيدوا اليقظة إلى عقولهم المغيَّبة (قل إنما أَعِظُكم بواحدةٍ أن تقوموا للهِ مَثنَى وفُرَادَى ثم تتفكروا) (سبأ: 46)
كان المتعصبون للتقاليد القائمة يقولون: (إنا وجدنا آباءنا على أُمّةٍ وإنا على آثارِهم مُهتَدون) (الزخرف: 22).
وكان النبي المكافِح لإزالة هذه الغيبوبة العقلية يرفض هذا التقليد الأعمى: (قال أو لو جئتُكم بأهدَى مما وجدتُم عليه آباءَكم) (الزخرف: 24).
لابد من موازنة عادلة ونتيجة صحيحة تحترمونها وتصيرون إليها!

والحق أني لم أقرأ كتابًا منسوبًا إلى السماء احتَفَى بالنظر العقلي وخَطَّ على ضوئه معالمَ الإيمان مثلما فعل القرآن الكريم الكريم .
إنه يخاطب الإنسان هكذا: (ألم تَرَ أن اللهَ أَنزَل من السماءِ ماءً فتُصبحُ الأرضُ مخضَرّةً) (الحج: 63).
(ألم تَرَ أن اللهَ سخَّر لكم ما في الأرضِ والفلكَ تَجري في البحرِ بأمرِه ويُمسكُ السماءَ أن تَقَعَ على الأرضِ إلا بإذنه) (الحج: 65).
(ألم تَرَ إلى ربِّك كيف مَدَّ الظلَّ ولو شاء لجعَله ساكنًا ثم جعلنا الشمسَ عليه دليلاً) (الفرقان: 45).
(ألم تَرَ أن اللهَ يُزْجِي سحابًا ثم يؤلِّفُ بينه ثم يَجعلُه رُكامًا فتَرَى الوَدْقَ يَخرجُ من خلاله) (النور: 43).

لَعَمري ما وجد العقلُ من بَدْء الخلق إلى يوم الناس هذا كتابًا يَعتَرِف به ويَجلو بَريقَه ويُمهِّد طريقَه مِثْلَ هذا الكتاب الجليل!

كان الدين عند كثيرين ينتظم مع أدب الخيال وأحلام الوجدان وهُيام الشعر وتهاويل الفن، حتى جاء القرآن الكريم، فإذا الدين علم يعتمد على الحقيقة، وقضايا تعتمد على البرهان، سواء اتصلت بعالم الغيب أو عالم الشهادة، أو كما يعبِّرون في عصرنا بـ (المادة وما وراء المادة).
وانضم العلماء بالدين إلى الملائكة المقربين في الشهادة بوحدانية الله وعدالته، كما جاء في الآية (شَهِدَ اللهُ أنه لا إلهَ إلا هو والملائكةُ وأولو العلمِ قائمًا بالقسطِ لا إلهَ إلا هو العزيزُ الحكيمُ) (آل عمران: 18).

وبَدَهي أن العلم هنا ليس العلم النظري الجاف، لا، إنه علم صادق مطابق للواقع، يُمهِّد لما نسميه "العاطفة العاقلة" ثم نتشبث به ونتعصب له، فلا نُرخِّص قيمته ولا نتنازل عنه. إنها خيانة أن نتخفف من الحق عند ثقل الأعباء، أو نستدير له إذا أرهقنا الأعداء!

وفي القرآن الكريم نماذج كثيرة للتعريف بالحق ولفت البصائر إليه، ولنَختَرْ هذا النموذج:
يقول الله ـ سبحانه وتعالى ـ معرِّفًا نفسه لعباده: (وهوَ الَّذي أنشَأ لَكُمُ السمعَ والأبصارَ والأفئدةَ قليلًا ما تَشكُرونَ. وهوَ الذي ذرَأَكُمْ في الأرضِ وإليه تُحشَرُونَ. وهو الذي يُحيي ويُميتُ وله اختلافُ الليلِ والنهارِ أفلا تَعْقِلُونَ) (المؤمنون: 78ـ80).
هذه إنارة للعقل لا يجوز أن يضل بعدها الطريقَ، ومنهج القرآن في الحديث عن الله جدير بالاحترام كله، إنه يضع أصابع الإنسان على ما حوله ثم يقول له: فكِّرْ! أتظن الشمس عقدت اتفاقًا مع الأرض لتَعاقُبِ الليل والنهار؟
أتظن كلتيهما حددت المدار الذي يخصها ووضعت عقوبة لمن يتجاوزه؟
إن هذه الأجرام السابحة في الفضاء لا تعقل شيئًا، وإنما تديرها حكمة (أفلا تعقلون)؟

وبعد استعراض للكون تَناوَلَ عَرشَه وفَرشَه جاء هذا التقرير الحاكِم: (بل أتَيناهم بالحقِّ وإنهم لَكاذِبُونَ. ما اتَّخَذ اللهُ من ولدٍ وما كانَ معَهُ من إلهٍ إذًا لذهَبَ كلُّ إلهٍ بما خلَق ولَعَلا بعضُهم على بعضٍ سبحانَ اللهِ عما يَصِفونَ. عالمِ الغَيْبِ والشهادةِ فتَعالَى عما يُشرِكونَ) (المؤمنون: 90ـ92).
هذه عقيدة التوحيد، وتلك أسانيدها العقلية، تتابعت في سياق صريح قاطع يثبت لله كل كمال وينزهه عن كل نقص، ويسند إليه المدائح التي تنبغي له وتليق بمجده!
حسنًا، فهل وقف الأمر عند هذا التقرير المدعوم ببراهينه؟
لا، لقد جاء بعده تيار عاطفي يدفع إلى البراءة من كل شرك وجهل، ويخوف من عواقب هذا الانحدار، جاء هذا التيار في صورة استعاذة من صاحب الرسالة أن يلحقه رَشَاش من الغضب الماحق الذي سينزل بالشاردين المعاندين، وغضبُ الجبارِ محذورٌ، ومن شمائل العبودية أن نتوقاه ونَنأَى عن أسبابه: (قُلْ ربِّ إمّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدون. ربِّ فلا تَجعَلْني في القومِ الظالمين. وإنّا على أن نُرِيَكَ ما نَعِدُهم لقادرون) (المؤمنون: 93ـ95).

والغريب أنه بعد تمزيق الحجب دون الحقيقة، وبعد مواجهة البشر بما يحملهم عليها حملًا يقول الله لنبيه: تَمهَّلْ، وتَذرَّعْ بالحلم، وقابلْ بإحسان من يُسِفُّ (ادفَعْ بالتي هي أحسنُ السيئةَ نحن أعلمُ بما يَصِفون. وقل رب أعوذُ بك من هَمَزاتِ الشياطينِ) (المؤمنون: 96ـ97).

هذا نموذج من عشرات تنبني عليها السور في القرآن النازل بمكة والنازل بالمدينة على سواء. والغريب أن النموذج هنا من سورة مكية، والمستشرقون يَرَون أن القرآن المكي يعتمد على العاطفة أكثر مما يعتمد على الفكر، فهل لديهم ما يوصف بأنه فكر أو عاطفة؟ إن ما لديهم فراغ!
ولا يوجد كتاب بنَى الإيمانَ على البرهان إلا هذا القرآن، إن التفكير فريضة إسلامية كما يقول الأستاذ العقاد!

ومجال التفكير هو في العالم المادي، هنا يستطيع الإنسان أن يلاحظ ويستنتج ويتابع التجارب ويكرر الفروض، ويصل آخرَ الأمر إلى ما يُفيده في دينه ودنياه، وذلك ما نبه إليه القرآن الكريم عندما قال: (إن في خلقِ السماواتِ والأرضِ واختلافِ الليلِ والنهارِ لآياتٍ لأولي الألبابِ. الذين يذكُرون اللهَ قيامًا وقعودًا وعلى جُنوبهم ويتفكرون في خلقِ السماواتِ والأرضِ ربنا ما خلَقتَ هذا باطلًا سبحانَك فقنا عذابَ النارِ) (آل عمران: 190ـ191).
أولو الألباب هنا يتفكرون في خلق العالم، ويستنتجون من قوانينه المطَّردة ونظامه المتناسق أنه مخلوق لرب حكيم، فلا عبث ولا فوضى.
وفي أول السورة نفسها ورد ذكر أولي الألباب على نحو آخر، إنهم لا يحاولون اكتناه الذات العليا، ولا يخوضون فيما يصعُب دَرَكُه من شؤونها، إنني شخصيًّا "أشعر" بأن الله مَلِكٌ مستوٍ على عرشه، لا يَنِدُّ شيء عن سلطانه، ولا يبعُد أمر عن حكمه!
لكن كيف ذلك؟ لا أدري!

أنا لا أدري علاقة روحي بجسدي، فكيف أدري استواء الله على عرشه!
الأفضل أن أتجاوز ذلك إلى غيره على نحو ما قيل:
إذا لم تَستطِعْ شيئًا فدَعْه وجاوِزْه إلى ما تستطيع
(والراسخونَ في العلمِ يقولونَ آمنَّا به كلٌّ من عندِ ربِّنا وما يَذَّكَّرُ إلا أولو الألبابِ) (آل عمران: 7).
على أن هذا التسليم ليس جواز مرور للخرافة أو قبولًا للمتناقضات!
وكما قيل: ما يَعِزُّ على العقل فهمُه شيءٌ، وما يحكُمُ العقلُ باستحالته شيء آخر!

وقد حارَب القرآن الأوهام، وكم يعيش الناس صَرعَى أوهام!
وحارب الظنون، وكم من ظنون توارثها البشر وجعلوا منها عقائد مقدسة‍! وما كانت يومَ وُجِدَتْ إلا شائعاتٍ لا أساسَ لها (وما يَتَّبِعُ أكثرُهم إلا ظنًّا إن الظنَّ لا يُغني من الحقِّ شيئًا إن اللهَ عليمٌ بما يفعلون) (يونس: 36).
ومن هنا نهى الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن نَتَّبعَ ما لا نعلم وأن نتأثر بما لا أصل له، لقد وهب لنا الفكر والحواس لنستخدمها في تبيُّن الحق، وسوف يسألنا عن طريقة استخدامنا لتلك المواهب: (ولا تَقْفُ ما ليسَ لك به علمٌ إن السمعَ والبصرَ والفؤادَ كلُّ أولئك كان عنه مسئولاً) (الإسراء: 36).


ومن معالم الجماعة المسلمة أنها تحترم المنطق وتسلُّم باليقينيات وتخضع لسطوة العلم!
وقد مضى هذا المنهج إلى غايته وهو يُحارِب الشرك ويُؤَسِّس التوحيد، فترى الحملة على المشركين معلَّلة بأنهم يَتَّبعون ما لا دليل عليه! قال تعالى: (ومَن يَدْعُ مع اللهِ إلهًا آخَرَ لا برهانَ له به فإنما حسابُه عند ربِّه) (المؤمنون: 117).
بل إن ذلك يُراعَى عند قصصِ الأولين وذكرِ أسباب الخروج على الضالين المستبدين، فقد جاء على ألسنة الفتية أهل الكهف: (هؤلاءِ قومُنا اتَّخَذوا من دونِه آلهةً لولا يأتون عليهم بسلطانٍ بَيِّنٍ) (الكهف: 15) أي بدليل واضح مقبول!

الحق أن أثر القرآن الكريم في الفكر الإنساني عميق، إنه هو الذي أقام الإيمان على المنطق ورفع راية العقل!
والله أعلم

اسلام اونلاين

ليست هناك تعليقات:

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

جميع الحقوق محفوظة لــ العقل والعلم فى حوار الالحاد 2018 ©